السبت، 19 يناير 2008

مبضع حصيف

مبضع حصيف


أخيرا قررت وعزمت الرأي على أن أنشر إحدى قصائدي في إحدى الصحف المحلية . بعد جذب وشد وتردد كبير وبعد كل هذه السنين التي مرت . لكن المشكلة أية قصيدة أختار؟ فكلها مثل أولادي لها نفس المكانة في قلبي. كلها عصارة عقلي وأهات قلبي وآلام عمري ودموعي التي سطرتها على صفحات دفاتري. أيها أنشر وبأيها أبدأ؟ لكي لا أغضب قصيدة وأسعد غيرها قررت أن أضع دفاتري وأوراقي وأن أنثر ها أماممي كالدرر ثم أغمض عيني وأضع أصبعي على إحداها. وهذا ماكان.
أخذت القصيدة التي وقع عليها الاختيار، قرأتها، أعدت كتابتها على ورقة نظيفة جديدة و بخط جميل ثم طويتها ووضعتها في مغلف يليق بها وكتبت عليها عنوان الصحيفة ثم هممت بالخروج لاضعها في صندوق البريد. في تلك اللحظة كانت زوجتي تدخل الغرفة وبيدها القهوة . شاهدت المغلف بيدي. نظرت إلي وقبل أن تسألني وباعتباري زوج بار بزوجتي عاق لنفسي بادرتها بالإجابة على سؤالها الذي لم تنطق به:" إنها إحدى قصائدى، سأرسلها إلى صحيفة "صوت الشعب" للنشر."
لم أستطيع تفسير النظرة التي علت وجهها. ملامح لم أعهدها من قبل. وجهها رسم تعابير غريبة كل الغرابة لم أعتد عليها. لم تنطق بكلمة. قالت:" تفضل القهوة" ثم تناولت المغلف، فتحته وفتحت الورقة وبدأت تقرأ بصمت. ثم نظرت إلي وقالت:" مارأيك ان تسمع مني قبل أن أن ترسلها." قلت لها:"تفضلي، ماعندك؟"
" ياابن الحلال، أنا أعرف أنك شاعر ممتاز، وشعرك رائع، لكن لم يقرأ شعرك أحد غيري، فما رأيك لو تعرض هذه القصيدة على رجل تثق به ويمتلك القدرة على نقد الشعر ؟ هه ، ماذا تقول؟."
لم أتردد لحظة بالموافقة نظرت إليها مبتسما وقلت:" نعم الرأي." وأول اسم خطر ببالي هو الاستاذ حصيف. فهو رجل يهتم بالأدب عموما وبالشعر بشكل خاص. وهو رجل معروف على الساحة الأدبية ولابد أنه يذكرني ، فقد كنت أحد طلابه المقربين ايام الجامعة وكان يشجعني على الكتابة باستمرار ويقول لي أنني أمتلك القدرة على الابداع. شربنا القهوة ثم أعدت القصيدة الى مغلفها وأخبرت زوجتي أنني سأعرضها على الاستاذ حصيف. تمنت لي التوفيق وهي تبدي ابتسامة تخفي ماتخفي.
توجهت من فوري نحو منزل الاستاذ حصيف في طرف المدينة الغربي. لحسن حظي هو من فتح لي الباب. وقف هناك يتمعن في وجهي متسائلا، بادرته بالتعريف بنفسي فما كان منه إلا أن رحب بي بحرارة فلقد تذكرني على الفور ثم دعاني لدخول منزله.
بعد شرب الشاي، قصصت عليه ماكان من أمري فضحك وقال:" نعم الرأي يابني، نعم الرأي"
ناولته القصيدة فما كان منه إلا أن أخرجها ثم بدأ يقرأ. أخذ وجهه يتقلب مرة يقطب جبينه، ومرة يحرك شفتيه باستغراب، ومرة يهز رأسه رافضا، ومرة يتبسم. كنت مع كل حركة من حركاته أفعل كما يفعل وكأنني مرآة له أعكس ملامح وجهه.
فجأة تحرك من مكانه واتجه نحو الطاولة، تناول قلما أحمر ثم عاد. أخذ هذه المرة يقرأ ويضع خطوطا ودوائر حول بعض الكلمات وتحت بعض الأبيات. كنت أسترق النظر إلى مايفعل حتى بدت لي القصيدة وكأنها موضوع تعبير ملىء بالأخطاء لكثرة العلامات الحمراء.
وضع الاستاذ حصيف الورقة على الطاولة ثم قال لي:" اسمع يابني، أنت شاعر، وتمتلك القدرة على التصوير والوصف، والموسيقى في شعرك لاغبارعليها، لكن قصيدتك مصابة بالمرارة."
قلت مندهشا:" مرارة! كيف ذلك؟ المرارة يصاب بها الإنسان، أما القصيدة....كيف ذلك؟"
قال:" لاتتعجل يابني. نعم المرارة. قصيدتك مصابة بالمرارة بشكل كبير ويجب أن نستأصل هذه المرارة حتى تصبح صالحة للنشر، ولكي لاتسبب مصائب أخرى أنت بغنى عنها. وسأبين لك. مثلا هنا " الورد تحت نعالكم" وهنا "من باب الجنة أخرجنا.." وهذه" بغداد في أعناقكم..." وهذه" مهد المسيح يسبكم..." وهذه" من جوعنا قد شيدت قصوركم..." وانظر إلى هذه المفردات" تبا لكم... هيا ارحلو... من جهلكم....وكلابكم....بسياطكم....." كل هذه يابني تعتبر كالأورام السرطانية ويجب التخلص منها على الفور وإلا فالويل للقصيدة"
سألت:" ماالعمل ياأستاذ؟ ماذا تنصحني؟"
قال:" أنصحك أن تغير هذه الأبيات ولاتفكر أن تنشر هذه القصيدة قبل تغييرها. أو فكر بنشر قصيدة أخرى غزلية مثلا . ولا تتردد أن تريني قصائدك قبل النشر. ولا تريها لأحد غيري. فلا قدر الله لو رآها ناقد آخر فلربما اعتبرها فايروس يجب التخلص منه. ولاعتبر كاتب القصيدة يشجع على نشر الفايروسات والجراثيم المعدية للصحة الشعرية ولأوصى بوضعك أنت وشعرك في الحجر الصحي. ولا يخفى عليك هناك لديهم الكثير من وسائل العلاج الغريبة. فيابني فكر بالأمر."
شكرت الاستاذ حصيف كثيرا على نصحه، وخرجت من بيته وأنا أحمد الله مرة لأنني لجأت للاستاذ حصيف، ومرة لأنه رزقني بزوجة لاتقل حصافة عن الاستاذ حصيف.

ليست هناك تعليقات: